التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صالح مقلّم يروي: أن تدرك الموت ساعتين


في لقائه الأوّل بعناصر تنظيم "القاعدة" لمس الصّحافيّ صالح مقلم لطفاً وكرماً لم يكن يتوقّعهما، إلّا أنّ ذلك سرعان ما تبدّل ليتمّ اعتقاله وتظليله بشبح الموت لأطول ساعتين في عمره.
تجربته في دخول بلدة عزّان في شبوة جنوب اليمن، والتي تعتبر أحد معاقل التّنظيم المرعب الصّيت، ينقلها "العربي" في حواره مع المراسل السابق لوكالة "فرانس برس"، الذي يعمل الآن لصالح وكالة "أسوشيتد برس"، صالح مقلّم.
حدّثنا بدايةً عن سبب زيارتك لبلدة عزّان؟
زرتُ بلدة عزّان مرّتين. زيارتي الأولى كانت في أبريل 2012، قالوا لي أنت أول صحافيّ يمنيّ يأتي الى هنا، وبحسب ما أخبروني، فقد زارهم صحافيّ بريطانيّ، ومكث عدّة أيّام، قالوا لي إنّهم أكرموه وتعاملوا معه بلطف حتّى أنهى عمله. في الحقيقة لقد لمست هذا اللّطف والكرم منهم في هذه الزيارة، وهو الأمر الذي لم أجده في الزيارة الثانية. على كلّ حال، كان سبب زيارتي أنّ وكالة "فرانس برس"، والتي كنت حديث عهد بالعمل لصالحها، طلبت صوراً لآثار غارات استهدفت سيّارة كانت تقلّ أربعة من عناصر تنظيم "القاعدة"، بينهم خبير متفجّرات سوريّ الجنسية، فعزمت السفر وتوكّلت على الله.
ألم تخف من مخاطرة كهذه؟
نعم. للأمانة كنت خائفاً. دخلت البلدة عصر اليوم التالي، أي بعد 24 ساعة من حدوث الغارة، ما يعني أنّ عناصر التّنظيم في أوج حنقها وستستقبل أي غريب بالرصاص، كنت هكذا أفكّر، خصوصاً بعد أن قال لي أحد أبناء البلدة: "أنت صحافي، إنتبه لنفسك من القاعدة"، فاستعنت بأحد شباب البلدة للتّنسيق لي معهم، بصراحة، بالإضافة الى حبّي للمغامرة. كنت أفكّر بالعائد الماليّ الذي سأحصل عليه، لأنّني منذ عشر سنوات أعمل في صحف محلّيّة كغيري من الزملاء، ولم نحصل على أدنى ما كنّا نتطلّع إليه. الصّحف المحلّيّة لا تستطيع أن تقدّم لنا ما يحفّزنا للمغامرة.

كيف وجدت البلدة في ظل حكم التّنظيم؟
أبناء المنطقة لم يتعايشوا معهم في البداية حسبما علمت، لكن التّنظيم حاول كسب ودّهم من خلال توفير بعض الخدمات التي تفتقدها البلدة، مثل الأمن، مياه الشّرب، النّظافة، وحلّ القضايا العالقة بين الأهالي منذ عشرات السّنين، التي لم تفصل فيها المحاكم، الأمر الذي جعل النّاس يفضلونهم على الدّولة الغائبة أو الضعيفة. بالطبع، لم يتقبّلهم النّاس طواعية، فعزّان منطقة قبليّة، لكن عناصر "أنصار الشريعة" كما يسمّون أنفسهم، فرضوا أنفسهم بالقوة. القوانين كانت صارمة، كلّ من يخالف قوانينهم تتمّ معاقبته وفق الشريعة الإسلامية كما يقولون. من ضمن القوانين منع حمل السلاح في البلدة، منع سماع الأغاني. قال لي أحد قياديّيهم، في حوار مقتضب أجريته معه، "نحن هنا فقط من أجل تطبيق الشّريعة الإسلامية". أمّا علاقتهم بأبناء المنطقة فمشوبة بالحذر، وخلال تواجدي لم أشاهد أيّ تصرفات غير مألوفة منهم تجاه المواطنين، عدا أنه في أوقات الأذان تتحرّك سيّارة رباعيّة الدّفع تشبه سيّارة الإسعاف ومكتوب عليها "الحسبة"، مهمّتها خاصّة بنداء الناس للصّلاة، كانت سيارة "الحسبة" تصول وتجول في البلدة مع كل آذان، وتتبعها دوريّة تحمل عدداً من عناصرهم، وبحسب الأهالي فإنّ الذي يعارض أوامرهم ولا يذهب ﻷداء الصلاة يأخذونه ويسجنونه أيّاماً كنوع من التأديب.
قلت إنّك قُوبلت بلطف منهم في الزّيارة الأولى فقط؟
نعم كانوا كرماء. عندما أكملت عملي، قالوا من الأفضل أن أبيت ليقوموا بواجب الضيافة، ودعوني لتناول الغداء في اليوم التالي. في الحقيقة كانوا يعتمدون أسلوبا ذكيّاً ليعكسوا صورة جيّدة عنهم، هذا ما استلخصته. وفي بداية دخولي للبلدة كان خوفي بادياً، فعمدوا إلى امتصاصه بأن دعوني لدخول ثكنتهم القريبة من نقطة التفتيش لتناول "شاي بالحليب" معهم، اعتذرت لكنّهم أصرّوا. وداخل الثكنة المكوّنة من أكياس ملئت بالتراب ومسقوفة بسعف النخل، وجدت ثلاثة ورابعهم قائدهم، تتراوح أعمارهم جميعاً بين 18-25 عام، قال لي قائدهم: "إنّهم في عزّان لجعلها إمارة إسلامية تحكم كتاب الله". قمت بتصوير أحد عناصرهم وهو مدجّج بالسّلاح، وكذا تصوير دوريّات تابعة لهم، وهي سيارات رباعيّة الدفع رُسم عليها شعار "القاعدة"، وهي تقلّ شباباً مسلّحين من عناصرهم، تجوب الشارع الرئيس في البلدة، ومن ثم ذهبت -برفقة مرافق منهم- لتصوير مركزهم الإعلامي. واختتمت جولتي قبيل غروب الشّمس بتصوير المكان الذي استهدفت فيه السّيارة، التي كانت تقلّ أربعة من عناصرهم قضوا جميعهم، ولم يبق في المكان سوى آثار الحريق على الأرض، وبقايا إطارات السيارة، فيما نُقل هيكل السيارة إلى مكان آخر.

كيف تغيّرت معاملتهم في الزيارة الثانية؟
في زيارتي الأولى، طلبوا رؤية بطاقة عملي وقاموا بإجراء مكالمة هاتفيّة، وبعد أقلّ من 10 دقائق، عادوا بالموافقة وسمحوا لي بدخول البلدة والتّصوير، فوجئت بهم يطلبون منّي الرّكوب معهم في السّيّارة ﻹيصالي، ورغم إصرارهم إلّا أنّي اعتذرت منهم وبرّرت لهم ذلك باحتياطات احترازيّة خاصّة بي. كنت أخاف من استهداف السّيّارة أثناء ركوبي معهم، ففضّلت المشي، وكان يرافقني شخص من عناصرهم، كانوا قد كلّفوه بمرافقتي لكلّ الأماكن التي ارغب بتصويرها. أمّا زيارتي الثّانية في 16يونيو 2012، فكانت لتغطية آثار غارات شنّتها طائرات أمريكيّة على مبنى يعتبر مقرّاً مهمّاً لهم، وصلت عصراً، لكن هذه المرّة انتظرت في نقطة التّفتيش ساعات، في المساء أخبروني أنّ الأمير أعطى الموافقة لي بالتصوير.
لماذا اختلف تعاملهم؟
اختلف بسبب قرب الجيش اليمنيّ من البلدة التي يسيطرون عليها، كانوا أكثر تشدّداً، مبرّرين ذلك بكثرة الجواسيس الذين يعملون لصالح الحكومة، ويقومون بزرع الشّرائح لتحديد المواقع للطائرات بدون طيّار، وأثناء اعتقالي، قرأت في ملامح وجوههم شرر القسوة والعنف، لكن ربّما كون فترة اعتقالي قصيرةً لم أتعرّض ﻷيّ أعمال تعذيب من قبلهم.
لماذا اعتقلوك؟
هم سمحوا لي ووافقوا على طلبي للقيام بتصوير المبنى الذي استهدفته غارات الطّائرة بدون طيّار. طبعاً، كان هناك وسيط من رجال القبائل يقوم بالتّنسيق لي مع أميرهم، قال لي الوسيط في المساء لقد وافق الأمير على أن تقوم بالتّصوير غداً صباحاً، ولم يذكر الوسيط أو ينقل عنهم وجود خطوط حمراء أو تحذير، وهذه المرّة لم يقوموا بتعيين مرافق معي من عناصرهم، كما فعلوا في زيارتي الأولى، لذلك تجوّلت وصوّرت كلّ ما أريد، صوّرت المبنى وداخل المبنى.
فتحوا المجال أمامك ولم يقيّدوا حركتك بمرافق! الم تعتقد أنّه طعم ليتمّ اعتقال صحافي؟
نعم. نسمع أنّهم يعتقلون الغرباء، ربما الجنود أو الأجانب للمطالبة بمبالغ مالية كفدية، لكن لم يصلني أنّهم اعتقلوا صحافيّاً من قبل. ماعرفته أن سبب غضبهم هو قيامي بتصوير أماكن تعتبر سرّية، وهي خطوط حمراء كما قيل لي.
وماذا حدث؟
ذهبت صباح اليوم التّالي من موافقة أمير عزان لتصوير المبنى الذي استهدفته الغارات. حين دخلته وجدت في الدّور الأرضيّ براميل كبيرة مملوءة بكمّيات هائلة من البارود، ومادة TNT شديدة الإنفجار، ومكائن لصناعة السّلاح الآليّ، ومكائن أخرى لصناعة الذخيرة، وعبوات فارغة وصفائح معدنية لصناعة القنابل والألغام والعبوات الناسفة. انتقلتُ للدّور الثاني الذي تهدّمت جدرانه من أحد الجهات، ولكنّه مازال قائماً، وقد وجدت كمّاً كبيراً من ملابس الجيش والأمن، ربّما كانوا يستخدونها للتّمويه في العمليّات الحربيّة والعمليّات الإنتحاريّة، إضافةً إلى ملفّات ووثائق عن ضبّاط وكوادر في الجيش والأمن اليمنيّ، وكذا ملازم وكتيبات تحثّ على استقطاب الشّباب للجهاد والإنخراط مع جماعة "أنصار الشريعة". قمت بتصوير كلّ شيء في المبنى، أنهيت التّصوير بعد ظهر ذات اليوم، وفي طريقي لمغادرة البلدة، وبينما كنت في طريقي ﻷستقلّ سيّارتي تفاجأت بجماعة ملثّمين أمسكوا بي واقتادوني إلى مبنى وسط البلدة، علمت فيما بعد أنّه مركز الأمن لدى "أنصار الشّريعة"، أدخلوني مكتباً في الطّابق الثّاني، وجدت أمامي رجلاً متيناً أسمر كثيف اللّحية، يجلس على كرسيّ، وأمامه طاولة صغيرة، وكان يقف إلى جانبه أحد الشباب المسلّحين. أمرهم بإغلاق الباب، وطلب مني الجلوس، فجلست على كرسيّ جانبيّ أمام "أبو محمد"، هكذا سمعتهم ينادونه، مضى وقت قصير والصمت يعمّ المكان، بعدها طلب منّي أن أعطيه حقيبتي لتفتيشها، فسلّمتها له وقام بإخراج الكاميرات، وأخذ يشغّلها ويستعرض مافيها من اللّقطات والصّور التي التقطتها.

إستطاع التّعامل مع الكاميرا وحده بدون طلب مساعدة؟
طريقة تشغيل الكاميرات كانت سهلة خصوصاً كاميرا الفيديو، لمجرّد فتح شاشة العرض، تستعرض المشاهد من تلقائها. الكاميرا الفوتو قام بتشغيلها، لكنّه طلب المساعدة لمعرفة آليّة استعراض الصور، واستعرضها وحده، وكان بين الفينة والأخرى ينظر نحوي بغضب. بعدما استكمل استعراض اللّقطات والصّور، طلب منّي وثائق العمل والهويّة، فقدّمتها له، وكان يتفحّصها على مضض، وبعدها قال بنبرة غاضبة: "أنت لست صحافيّاً، أنا أشكّ أنكّ تعمل لصالح استخبارات أجنبية"، قاطعته مؤكّداً أنّني مجرّد مصوّر صحافيّ ولا علاقة لي بأيّ شيء، إزداد غضبه ونهرني قائلًا: "يكفي. لقد تجاوزت الخطوط الحمراء وتصرّفك ليس سهلاً على الإطلاق، لقد تعدّيت الخطوط الحمراء وكشفت أموراً خطيرة، نحن لم نسمح لك بتصويرها". وأمرهم بأخذي إلى الأسفل. إقتادني أحدهم، وبينما كنّا ننزل على الدّرج قال لي: "سيتمّ سجنك وسيقومون بقتلك"، شعرت وأيقنت حينها أنّها آخر لحظات حياتي، كنت أتخيّل أفراد أسرتي عند وصول خبر مقتلي إلى مسامعهم، كانت لحظات مرعبة لاتُنسى، كانت حالتي سيّئةً جدّاً، طوال السّاعتين، كنت أستعرض شريط حياتي، وأسأل نفسي: هل فعلًا هذه آخر لحظات في حياتي؟ كيف ستكون طريقة إعدامي؟ كنت أعيش صدمة نفسيّة، شعرت بالنّدم والقهر معاً.
وكما يبدو لم تكن آخر لحظات حياتك؟
نعم . الحمد لله. بقيت بعدما أمر "أبو محمّد" باعتقالي نحو ساعتين في غرفة أسفل مبنى أمن "أنصار الشّريعة" في إمارة عزّان، بعدها فوجئت بسماع صخب وأصوات تتعالى في المبنى، وفي هذه الأثناء، دخل أحد عناصرهم وقد كان مرتبكاً، قال لي: "هيّا، يجب عليك أن تخرج من هنا الآن بسرعة، فهناك طائرة أمريكية تحلّق فوقنا، وستضرب المكان، هيا أخرج بسرعة". خرجت من الغرفة إلى باحة المبنى، ورأيت عشرات من عناصرهم يهربون. خرجت لحظتها وكأنّني ولدت وكُتب لي عمر جديد.
قلت في بداية حديثك إنّك رأيت مركزهم الإعلامي، كيف وجدته؟
مركزهم الإعلامي عبارة عن غرفة صغيرة مبنيّة من الّصفيح، يتوفّر فيها جهاز كمبيوتر، وعرفت أنّهم من خلال هذه الغرفة الصّغيرة يديرون الشّؤون الإعلاميّة لـ"أنصار الشريعة" في البلدة، من حيث إصدار البيانات وتوزيع الأخبار لكمٍّ كبير من الصحافيّين ووسائل الإعلام، عبر البريد الإلكتروني. كما كانوا يصدرون منشورات ومطويّات ﻷنشطتهم، وكذا توجد لديهم قناة على الشّبكة العنكبوتيّة تنشر مقاطع الفيديو المختلفة. رأيت في مركزهم الإعلاميّ شابين -دون سنّ الثلاثين- لا يبدو أنّهما صحافيّان، ربّما لديهما موهبة في المجال الصحافيّ، وتم تعيينهما في المركز الإعلاميّ لـ"أنصار الشّريعة" في البلدة.
كيف تقرأ مستقبل وجود التّنظيم في اليمن؟
بالنسبة لوضع اليمن الرّاهن، فمن منظوري يعطي فرص لصالح التّنظيم، في حال استمرّ تدهور الأوضاع، وانفلات الأمن، خصوصاً في المحافظات الجنوبيّة. سيسيطر التنظيم على أجزاء كبيرة من المحافظات الجنوبية، وهذا الأمر مرهون بالحلّ السياسيّ للأزمة اليمنيّة وعودة الدّولة لممارسة مهامّها وبسط نفوذها على كلّ الأراضي اليمنيّة، بما فيها المناطق التي يسيطر عليها التّنظيم الآن. هذا الأمر ليس صعباً، في حال تعافى الجيش اليمنيّ ووُجدت إرادة وطنيّة، إذ لاحظنا أنّ الجيش اليمنيّ، في منتصف عام 2012، كان قادراً على تحرير معظم المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "القاعدة" خلال فترة ليست بالطّويلة، ولكنّه لم يحافظ على ما حقّقه من سيطرة، نتيجة الصّراع السياسيّ الذي يؤثّر عليه بين الحين والآخر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشفوت... شغف الإفطارات اليمنية ودرّتها

"الهريش"... ذائقة" اليمنيّين في "الأضحى"

مفاوضات الكويت: لا مكان للتّفاؤل؟